منذ كنت صغيراً وأنا أسمع المصطلح ” فلان يبني نفسه ” وكأنّ الإنسان أشبهُ بشقة أو بناء ولكن بعد تفكير عميق توصّلت إلى أنّ هذا المصطلح يعبّر عن الإنسان بأفضل صورة ممكنة وسأشرح وجهة نظري:
يُولد الإنسان “شقة عالعضم” يفرح أهله بضمّها إلى شقتهم ويضعون على بابها لافتة تحمل اسم المولود وهو ما زال لا يفقه شيئاً.
يبدأ الأهل شيئاً فشيئاً بإكساء هذه الشقة وتأمين كلّ ما تحتاجه، فساكن الشقة يحتاج أولاً إلى ماء وغذاء ، ويحتاج إلى الأوائل الكهربائية الضرورية، ونظراً لأنه لا يملك المال فهو بحاجة إلى من يشتري له الأغراض ويدفع له فاتورة الماء والكهرباء.
بعد ذلك يقوم الأهل بتعليم طفلهم الكلام وكأنّهم يقدّمون طلباً لوصل الهاتف إلى الشقة وعندما يتكلم الطفل يدفعون هم فاتورة الهاتف.
تجري الأيام ويتحسّن منظر الشقة من الخارج ومن الداخل، فالمدرسة أشبه بمحل المفروشات الذي يحضر الولد منه الأرائك والكراسي والطاولات ليضعها في بيته، كلُّ ثوب يُشترى له هو دهان جديد لباب الشقة يجذب الزائرين، كل لغة أجنبية يتعلمها هي سرير جديد يمكّنه من استقبال شخص قادم من بعيد في بيته، كل مكان جديد يذهب إليه هو نافذة جديدة يفتحها في حائط منزله، وكل فكرة جديدة هي لوحة يعلّقها على الحائط ينظر الزوار إليها فتسُرهم أو لا تعجبهم وكل كتاب يقرؤه جهاز كهربائي يسهّل له أمور الحياة وكل …….. وكل ……….. .
مع مرور الأيام يحسُّ الأهل أنّ الولد قد كبر وأصبح شاباً، وبعد أن كان أهله يضعون الأغراض كما يشاؤون داخل البيت، صار الشاب يعترض على مواضع بعض الأغراض أو حتى على وجودها في بيته، وأصبح يقول دائماً: ﴿لقد أكل الدهر على هذه “الأغراض” وشرب، نعم لقد كانت حديثة على زمانكم وأما الآن فهي تحتاج للتغيير، ماذا سيقول أصدقائي إذا وجدوا هذه الخردة في شقتي؟؟؟؟)
ويتسرب الحزن إلى قلبي الأب والأم فمنذ درى الولد أن هذه الشقة ملكه وهو لا يتوقف عن تغييرها أو تحديثها كما يرغب ويمكن القول إنه استغنى تقريباً عن كل ما أحضره أهله إلى هذه الشقة.
هذا الحزن الذي يدفع الأب إلى النزول إلى الشارع وتأمّلِ الشقق المتناثرة، فبعضها لم يتعب أصحابها في بنائها فما زالت طابقاً واحداً ولا شيء فيها يسُرُّ الناظر، وبعضها ارتفع عدداً من الطوابق وصار يحوي وسائل الرفاهية، بعضها مُزيّن من الخارج ولكنّ الرطوبة قد أكلت جدرانه من الداخل، و بعضها تَحسبُه من الخارج بيت شحاذ ولكنه قصر ملك من الداخل، بعضها كثير النوافذ ينقل ضجة العالم إلى داخله، بعضها لا تدخله الشمس ولو قامت الحرب خارجه لما أحسَّ ساكنُه، وبعضها لا يُغلَقُ بابه من كثرة الزوار، وبعضها تحتاج مفاصل الباب فيه للمسح بالزيت، وبعضها…. ، وبعضها…… .
في هذه الفترة انهمك الشاب في بناء شقته، ولم يترك غرضاً كهربائياً إلا وأحضره إليها، زينّها بأفخم اللوحات وأغلاها ثمناً وأندرها، علّق ثريات تضاهي ثريات الكنائس والجوامع، تزوّج وفتح شقته على شقة أخرى فصارت الشقتان واحدةً، في البداية كان لكل طرف من الشقة الجديدة ذوقه الخاص مما سبّب بعض المشاكل ولكن سرعان ما توحّد الذوقان وجعلا الشقة آية في الجمال.
انشغل ببناء طابق آخر في “شقته” وتجهيزه ولكنّ كل غرض سيحضره يحتاج وقتاً فما عاد يزور أهله، صار يتهرب من الأصدقاء لأنه مشغول، ثمّ شرع ببناء طابق آخر وانشغل عن أولاده وزوجته وهكذا حتى وقف في آخر العمر أمام ناطحة سحاب وسُرّ لرؤيتها، نعم لقد أصبح ناطحة سحاب ولكن عندما نظر حوله لم يرَ أحداً.
عاش أواخر حياته في ناطحة سحاب ولكنها كانت خالية من أي ساكن، إلى أن جاءت جرّافات البلدية وهدمت المبنى وسوّته بالأرض، ثم طمرت الحجارة والغبار تحت الأرض ووضعت لافتة ُكتب عليها الاسم نفسه الذي كتبه أبوه منذ سنوات عديدة على باب الشقة التي كانت “شقة عالعضم”.
اسكندر توما شاب في الحادية والعشرين من العمر ،طالب صيدلة في السنة الرابعة……
شقة عالعضم” ” كتبت في 28 آب 2010
أول مرة أزور مدونتك القيمة .. تهنئتي لك على المجهود المبذول والرائع..
LikeLike