
منذ أصبح لدي على ما يبدو فائض من الانترنت، أضيفت إلى قائمة عاداتي السورية الموجعة عادة التصفح لساعات في الصفحات الشخصية للشهداء أو عائلاتهم.. لأقرأها تعليقاً تعليقا ً وجملة جملة ، لأراقب الصور وأحفظ ملامح الوجوه وهي تنبض بالحياة، أتفادى صورهم والدم يغسل وجوههم كآلية من آليات النكران ربما، أو لعلني أعادي ذلك الموت الذي يختار أجمل أناسنا.
من الذاكرة انتشل ثلاث قبور على صفحات الفايسبوك حفرت في البال لسبب أو لآخر. أولها تلك التي تعود إلى استشهاد مالك عيسى، ذاك الجميل الذي لست أدري لم يفجعني شخصيا ً خبر استشهاده، لربما لشيء يتعلق بفجيعة ثوار حلب فيه أو ربما لابتسامته الودية المحببة أو لشيء في اسمه، او لتلك المظاهرات التي يقولون انه كان فيها، وأنا أذكر تماما ً انني حضرتها بدوري ويعتصرني الأسى لأنني لم التقيه يومها، لم التقيه حينها يوم كنا نهتف سويا ً للحرية. منذ سماع خبر استشهاده أقرأ كل ما يتلوه أصدقائه عنه وأبكي سوريتنا لا أبكيه، سوريتنا التي حتما ً كانت ستكون أجمل لو كان فيها.
أقرأ بخشوع رسالة أمه لأصدقائه تخبرهم فيها: الوالدة بتسلم عليكم جميع، وبتباركلكم بشهادة اخوكم مالك، وبتقلكم الله يحميكم ياررب ويبشركم بالخير انو مالك نطق الشهادة، دعواتكم له… وأدعو لها من قلبي بالصبر والقوة .. أقف مطولا ً أمام صورة للشهيد المقاتل ويغفو قط أبيض عند قدميه بسلام ومرغمة من بين الدموع والغصّة ابتسم… فاجعة أخرى لها في القلب مساحة مختلفة، وهي استشهاد أيهم غزول تحت التعذيب، وحينها لسبب لست أدري او أخشى الاعتراف به حتى لنفسي .. سكنت صفحة حبيبته، قرات حبهما وأيقظ أعمق مخاوفي. حاولت بكل ما أعرفه غيبا ً عن الخسارة والفقدان والموت أن أتخيل مقدار الالم الذي يحتل قلب نسمة وفشلت، أتابع ما ترويه لها أمه وأحفظ ذكرياتهما عنه .. عنهما وعن شكل الحياة بعده وأبكينا جميعا ً نحن المحكومون ألا نحبّ إلا ونحن متخمون بالقلق على الذين نحبهم… أعود لما كتبته نسمة لأيهم أيام اعتقاله .. اتخيل كم مرة راجعت تفاصيل اللحظات التي مرت وهو شهيد وهي تنتظر خروجه .. وأخشى أن أسألها إن كانت لا تزال تنتظره.
أحتفظ بصورة لطيور الأورغامي التي صنعتها نسمة وهي تبتهل خروجه من المعتقل وأقسم لنفسي ان أتعلم كيف أصنع طائرا ً أورغاميا ً ملونا ً .. سأهديه يوما ما لنسمة وعلى عكس هذا الإدمان على صفحات الشهداء، تبقى صفحة الشهيد الصديق مصطفى قرمان حالة أخرى لست أدري كيف أحياها. لاشيء في تلك الصفحة الشخصية لمصطفى، شخصي أو يشبهه، فلا ضحكته تحمل ذات الرنة في آذاننا ولا يبدو في أي مكان فيها بساطة محبته لأصدقائه ولا ولعه بتفاصيل النظافة في غرفته الأنيقة دوما ً .. تلك الصفحة هي شيء ما من مصطفى لكنها لا تكفينا وتذكرنا دوما ً بما تعاهدنا أن نحققه يوما ً في سوريا، فتخلق فينا الكثير من الذنب والثورة ورغم انها لا تشبهه كثيرا ً نأبى في كش ملك إلا أن ننقلها معنا في كل مجموعة فايسبوكية جديدة آخرها ربما المجموعة التي تختص بأخبار المدرسة التي أقمناها لذكراه. ويبقى القبر الافتراضي الأصعب.
ذاك الذي افترضت أن عليه أن يعوضني عن زيارة قبر أمي.. منذ ما انتقلت للعيش في مناطق حلب المحررة، وتركت ورائي في المناطق المحتلة من مدينة حلب، قبران لأب وأم لن استطيع على ما يبدو قريبا ً أن أضع الزهور على أحجارهم .. وطالما أن بيني وبينهم، قناص معبر كراج الحجز وحواجز النظام المتأهبة للإمساك بي لم يبقى لي إلا أن أرسل بين الفينة والأخرى وخصوصا ً أوقات التعب الحزين، الرسائل تلو الرسائل لحساب أمي الفايسبوكي، أشكو لها وحدتي وغرابتي، أخبرها عن ذاك الذي احبه والذي لن تعرفه، ولن يعرفها .. ومجددا ً بين الفينة والأخرى.. أراقب تلك الرسائل وأنا أنتظر أن يعطيني الفيس بوك إيعازا ً بان هذه الرسائل قد قرأت أخيرا ً..
Leave a Reply