وموت ..


يحاصرني الموت بطرق لست أدري عدّها ولا أعلم أصلا ً إن كان من الممكن أصلاً  حصر الطرق التي يأتيك فيها الموت في سوريا..
علاقتي مع الموت كانت دوما ً عبثية ، بدأتها في سني مراهقتي عندما لم أدخل غرفة أبي لأودعه ورحل خلال لحظات بجلطة قلبية، حينها تمنيت الموت جديا ً ولكنه عاداني
حول أبي كانت تدور الكثير من مفاصل شخصيتي ولكن الحياة أبت إلا أن تستمر بعده، قبل الثورة بقليل فجعت بصديق أو ربما للدقة بخسارة أحد أكثر الذين أثروا في حياتي .. فجعت بخسارة كريم عربجي
مع كريم عشت الانتظار على طول الخط ، انتظار أن نتخطى سوء الفهم بيننا إلى انتظار أخبار عنه بعد اعتقاله من النظام  لسنتين ونصف تقريبا ً دون محاكمة ثم لانتظاري الافراج عنه ليليها انتظاري الذهاب إلى بيروت للقياه بعد الأفراج عنه
ليكون الموت هو فرصة لقائنا الأخيرة .. ألتقيه في دمشق مع جموع المشيعين بعد أن سرقته مرّة أخرى ذبحة قلبية

كريم كان جزءا ً من الوطن .. وكانت أولى فواجع سوريا في ّ
وتتالت ..
في المرة الأولى التي أطلقت قوات الأمن الرصاص على تظاهرة أنا فيها كانت في الشهر الخامس من العام 2011 وكنت مصدومة بحق، فكل ما سمعته عن الأمن وإطلاقه النار على التظاهرات السلمية كانت غير ذاك الشعور الحقيقي ” للرصاص ” والركض
خصوصا ً أن جسدي لا يساعدني تماما ً ولا يطاوعني على الركض فأنا من هؤلاء الناس الذين يعانون من الثبات لدى الخوف أشعر بشلل في جسدي يمنعني من الركض وحتى وإن اتخذت قرار الركض فأنا من الذين يركضون عشوائيا ً ويصطدمون بكل من حولهم
يومها ولدى الرصاصة الأولى عشت صدمتي المثالية ” أيعقل أن يقتل أنسان إنسان آخر بهذه البساطة ؟” ليليها تساؤل أكثر سذاجة بكثير ” أيعقل أن يقتل سوري سوري آخر بهذه البساطة؟ ” ومع الوقت أصبح اللامعقول معقولا ً جدا ً حتى لم تعد أي وحشية قادرة على أن تدهشني !

وتوالى إطلاق الرصاص وتحسن تدريجيا ً ” على الأقل كما أدعي أنا ” مقدرتي على الركض، كنت أركض من الموت وكنت أنجح.
لدى حادثة استشهاد والدتي .. كان الأمر عبثيا ً أكثر مما يمكن لعقلي استيعابه

في تلك الفترة تحديدا ً كنت أحيانا ً أشارك في ثلاث أو أربع مظاهرات في اليوم الواحد .. لأبدأ في ساحة الجامعة ظهرا ً وانتقل لمفرق زينو  بعد الظهر مرورا ً بصلاح الدين وانتهاء في بستان القصر ، كنت أختبأ في بيوت الغرباء وأركض وأستمع إلى صرخات من يتم الامساك بهم
وأنجح في تفادي الموت.. حين سمعت يومها أن والدتي ماتت برصاصة ؟ اعتقد أنني فكرت في التحقق من جسدي أولا ً فالرصاصة كان يجب أن تطالني أنا ، أن تقتلني أنا .. أنا التي أواجهها يومياً .. لا أن تحصد حياة أمي وهي عائدة من فرحة بسيطة
عبثي هو هذا الموت .. الذي يلازمني
عبثي كيف يحاصرني ويتفاداني

بعدها اعتكفت التظاهر فترة لا خوفا ً ولكن زهدا ً بكل شيء، أصبح منظر أي بارودة كفيلا ً بجعلي أتذكر وجه والدتي المدمى
لا ابتسامتها الأنيقة .. وفي سوريا كما تعلمون جميعا ً هناك الكثير من البواريد والدم ..

إلى تلك اللحظة التي شعرت فيها أن علاقتي مع الحياة قد اختلت تماما ً، كانت أولى المظاهرات التي أحضرها بعد وفاة والدتي وأطلقوا الرصاص علينا .. ولم أشعر برغبة في الركض
لم يكن الموضوع كسابقه .. كنت أستطيع الركض من وجه الرصاص لكني لم أكن أشعر بأي رغبة في ذلك
حتى جذبتني إحدى الصديقات من يدي ..
يومها أدركت أن الموت الذي يحاصرني .. قد بدأ يحصدني من الداخل .. وعرفت أن الرصاصة التي قتلت امي قد بقيت داخل جسدي جرحا ً مفتوحا ً تسيل منه إنسانيني قليلا ًقليلا 

عبثي هذا الموت كيف يتركني حية وأتنفس ” ولا أرزق حاليا ً ” ولكنه يلتهمني من داخلي

بعد التحرير .. عبرت إلى حلب المحررة مرارا ً دون أدنى شعور بالخوف أن القصف اليومي قد يطالني .. حتى غادرت سوريا

وفي هذه الفترة من العام الماضي .. وأنا اتابع الانترنت بحسرة بانتظار أخبار مظاهرة ” البستان ” ، وإذ اسمع بنبأ سقوط قذيفة على المظاهرة
وأنتظر أخبارا ً عن الأصدقاء .. وتأتي الفاجعة
يصاب أثنان من المقربين ..
واحدهما إصابته كبيرة
ومنذ سماع الخبر أبكي مصطفى وكأنه شهيد .. لا شيء في الأنباء الواردة كذبا ً عن تحسن حالته كانت تطمئني
وهكذا خسرنا مصطفى ، لربما هو أكثرنا حبا ً للحياة على بساطتها وأكثرنا فرحا ً بحبه الجميل وزواجه القريب
ويرحل مصطفى ويترك جرحا ً في يد محمد وندبة أخرى داخل الروح
وسؤالا سخيفا ً مؤلما ” لماذا تركت أصدقائي يقصفون وحدهم ” ؟

ألم أقل لكم كم هو عبثي هذا الموت ؟

اخطط لمواجهة مها ، لأقول لها خلاصة تعاملي مع رحيل الأحبة .. لأكتشف ان لا شيء مجد يقال .. أن كل كلمات المواساة فاشلة وأن موت الذين نحبهم .. عنفاً هو فاجعة كبرى لا نشفى منها بسهولة ..

ومع الانتقال للمحرر عشت القرب اليومي من الموت في تفاصيل كثيرة ، ابتداء من السكود وانتهاء في الركض من قناص كراج الحجز
وذات الشعور بأني أحدق في الموت في عينيه دون أدنى خوف أو خجل ، وهو الآخر يسخر مني ومن حياتي
يحاصرني حيثما اتجهت .. كمحب يغازلني بنظراته لكنه يأبى أن يقترب

واليوم يطالبني البعض أن أخشاه ؟
يخافون عليي وهم محقون .. لكنني لست أدرى كيف أخشاه وهو يحيا داخلي ..كيف وأنا  أشعر أنني سأنجب موتا ً J
ما الفرق لو متّ كمصطفى  او مت ذبحا بسكاكين حاقدة ؟
ما الفرق لو أن آخر ما رأته عيناي كان ما أغلق باسل شحادة عيناه على رؤيته ؟ ام كان كما رآه حازم في اعزاز ؟

لم بعد ثلاثة سنوات يطالبونني أن أعيد تعريف الحياة والخوف والمبادئ والثورة والموت ؟ من أوحى لهم أنني قادرة على مواجهة هذه الاسئلة مجددا ً ؟
من قال لهم أنني أجرؤ أن أسأل نفسي إن كانت تضحياتنا عبثية .. كما الموت ؟ من قال لهم أنني أستطيع بعد الرصاص الذي في قلبي أن أعود إلى نقطة الصفر .. ليتهم يطالبونني بالعودة إلى نقطة الصفر
هم يطالبونني أن أعود إلى ما قبلها .. يريدون أن انتظر سمر كما انتظرت كريم يومها .. بصمت خجول أو ربما بتلميحات مبطنة

فإن كان أقصى .. ما يستطيع هؤلاء أو غيرهم .. هو آخذ الجسد .. فليفعلوا

فلهذه الروح أحبّة كثر في الانتظار على الطرف الآخر من الحياة
ولحينها فإنني أحيا .. كما أؤمن .. او على الأقل فإنني أحاول ذلك
ولذاك الذي لا يأتي .. أنا اعتدت العيش معك فلم أعد أخشاك .. ألفتك أيها الموت .. لكن أرجوك هذه المرّة دع الذين أحبهم وشأنهم
ألم يحن دوري أنا ؟

ولذاك الجميل  .. “إن متّ قبلك .. أوصيك بالمستحيل ”

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

Up ↑

%d bloggers like this: