وردة بيضاء لكنان

في حلب، كنت في مراهقتي شديدة السخرية من طقوس العزاء المسيحي، وعندما كبرت نقلت ذات الشك ولكن بصمت

لتشمل طقوس العزاء لسكان المدينة بأكملها.

العزاء الأول الذي كان قريباً جداً إلي، كان عزاء عمي أنطوان، مات بجلطة قلبية في أوائل أربعينياته. ليتلوه لوالدي بستة أشهر فقط. والدي، رجل الدين المسيحي المحبوب بشكل كبير من مدينته، وبشكل أكبر بما لا يقارن مني أنا. نوع آخر من المحبة لم امتلكها حتى اللحظة نحو شخص ما، ربما أمتلكه فقط نحو مدينة قاسية كحلب. يقتضي عزاء رجل الدين ألا يدفن لمدة طويلة، هو ليس أباً لعائلته فقط، هو آب للرعية في الكنيسة وللرعية الحق في وداعه. بتابوت زجاجي ولمدة أسبوع، اصبحت مهمتي تغيير تلك القطعة من القطن المدمى داخل انفه.
مئات من المعزّين، في الأيام الأولى جاءوا لوداعه، في الأيام التالية أتوا لمساندتنا. ثم أصبح البعض يأتي حاملاً سير حياته الاعتيادية وقصصه وتدخلاته في حياتنا وحياة والدتي الأرملة الصغيرة في العمر على وجه الخصوص. لطقوس تعزيتنا، الكثير من البهرجة. يجب أن نهدر الطعام. الكثير منه وبنوعيات فخمة. هو مؤشر على محبتنا للفقيد. كم يوماً أعددنا الطعام؟ من عند سلورة أو نوتوراكي أو مطعم اعتيادي آخر؟ من دعينا للبقاء على كميات الأكل الدسمة التي لم أفلح يوماً في تقبلها وأنا في حالات حزني الشديد.
مئات من العلاقات القريبة والبعيدة، تصافح يدك ، تحتضنك رغم انك لا تريد أن تحتضن، تسألك عن “ايمت حنفرح فيك؟”. تخبرك ذكريات عاشوها مع من فقدت ولا تملك أنت إلا أن تصدقها. أختي دائماً تعتقد أن مسؤوليتها في عزاءاتنا العائلية أن تتأكد أن الجميع قد أخذوا حصتهم من القهوة المرّة.
متعبة الكراسي الخشبية في صالات الكنائس المخصصة لكل المناسبات، تعزيات وخطب وحفلات عيد البربارة. مخيفة تلك الكراسي البيضاء البلاستيكية، لطالما خفت أنني سأكسرها في مشهد علني غير مناسب للوقار الخاص بالحزن.
أردت أكثر من أي شيء آخر، أن أكون وحدي في عزاء والدي وبعد سنوات لاحقة في عزاء والدتي. كنت أشعر أن مشاركة حزني على العلن، مع جيران لن أراهم مجدداً وصداقات لوالداي لم أكن أدرك وجودها يبهت من حقيقة الحزن.
أردت أكثر من أي شيء آخر، أن أكون وحدي في عزاء والدي وبعد سنوات لاحقة في عزاء والدتي. عنيدة تجاه البكاء أمام الآخرين، أشعر مباشرة أن على أكتافي يقع عبء عدم إثقال كاهلهم بالأحزان، بشكل مبسط قبل الثورة وبشكل مبالغ فيه بعدها. ابتسم أمام الجمهور، حتى لو لم امتلك الرغبة لذلك.
دفن والداي كل على حدة، أبي مدفون كالعادة المسيحية في قبور تحت الكنيسة التي خدم فيها. ودفنت والدتي في مقبرة بعيدة كذلك.

زرت قبر والدي كثيراً، ولم أزر قبر والدتي بعد الدفن أبداً. جاء الاقتلاع القسري لي ولاحقاً لآختي وثم للعائلة الأبعد ليصبح قبور والداي وحيدان تماماً في المدينة.

كم كان لديّ من الترف لأن أكره طقوس العزاء.

مات في الأسبوع الماضي، صديق غال جداً، أسمه كنان كبة. ومنطقي مني أن يبدأ نص عن كنان ب”في حلب”. يجمع من يعرفه أنه مقاوم وساخر وصديق لنا جميعاً نحن الغاضبون من أصدقائه، المنفيون كل في دولته الجديدة التي لن نحبها حتى لو أنها أجمل من حلب، فقط لأنها ليست حلب. و أنه “حلبي أصنص”

كنا نعرف أن كنان مريض بالسرطان، وحرمنا من زيارة مشفاه فكان هو يزور رسائلنا. يسخر من مرضه، يبهدلني على خيارات عاطفية، يسخر من خيارات عاطفية أقدم، يناقشني في مقالاته، يبهدلني على تأخري في الكتاب.
ويحضر السرطان بين أحاديثنا، أسخر أنني أود أن أرث مكتبته. يقول لي “فؤاد العرص بدو الكتب” ألك ” الكيندل وسماعة بوز” لا أعرف ما هي السماعة البوز. ولكنني أخاف من متابعة النكتة السمجة التي بدأتها. أخاف من مزاحنا الدائم حول موته.

أعترف له أنه “مفزلك” تضحكه الفكرة قادمة مني أنا تحديداً.

بمحادثة لاحقة وقريبة، يريد أن يعرف كنان إذا كنت قادرة على قتل بشار الأسد. يعتقد أنه غير قادر على فعل الق وأعتقد أنا “بلا تردد” انني قادرة على قتله. نعرف كلينا أننا مهزومون أننا المقتولون في القصة. ولكن نقضي ساعة في نقاش “مفزلك” عن اللاعنف الذي يقتل أو لا يقتل بشار الأسد.
لا أدري تماماً متى تعرفت على كنان، من فراس ربما ؟ صديق العائلة، والصديق الذي ورثته عن والدتي؟ قبل ذلك ؟ يجلدني الحزن على موته كيف أنسى تفصيل لقائنا الأول. النسيان لعنتنا الرحيمة.
ما أدريه تماماً ان كنان، فؤاد، حلا، عبير، عابد، الياس، شذى وساغاتيل والأب الرائع مراد، كانوا سنداً في وجه “لو أبوك عايش كان وطيتو راسو”، كانوا البديل المسيحي القريب لـ” المحبة تتأني وترفق”
وهناك أصبحنا أصدقاء، في مدرسة إغاثة تدعى هدى شعراوي. نجتمع هناك بشار وعلاء وفرهاد ببيجامتهم الموحدة المضحكة ! يبدون كأنهم فريق صبيان في المدرسة الابتدائية. وائل يحاول تنظيم التبرعات و ملاحقتنا على الفواتير. مطبخ ، سلل إغاثية، صوت جهان يحاول تنظيم المستودع. نغني بعد كل يوم طويل، يلعب كنان البينغ بونغ. ويحب! أو كما أغيظه أنا “يتمعشق”
يبتسم مصباح لأغاني أم كلثوم، وأشعر أنا المحبة للغناء ذات الصوت متوسط الجودة، بالغيرة الشديدة من صوت الياس الطربي الجميل.
نفينا على مراحل جميعنا وإلى وجهات لجوء مختلفة، وتباعدت فترات تواصلنا نحمل في مواجهة عزلتنا الجديدة، رائحة ذاك الصداقة.
حتى أستيقظ صباحاً، في فرق التوقيت والمنفى، لأكتشف أننا فجعنا بكنان. انتصر السرطان كذلك.
أبحث عما أستطيع فعله لأحزن هذه الصداقة وهذا الجميل الراحل مبكراً؟
تشعرني فكرة أخذ إجازة من العمل بالسخافة. نحن السوريون نمارس الفخر المصطنع أننا لا نحزن بأدوات الآخرين. بيكسر الخاطر مقدار فجائعنا.
ولكن بأدوات من أحزن إذاً ؟
أرسل القلوب السخيفة للأصدقاء المشتركين، أود أن تقول هذه القلوب انني معهم.
هم يعرفون أنني لست معهم
أنا أعرف أنني لست معهم
كنان ربما يعرف أننا لسنا سوياً

أريد أكثر من أي شيء آخر، أن نجلس في النادي الكاثوليكي لنستقبل العزاء بكنان. في حلب ، في الحي الذي نعرفه جميعاً ونحبه حتى لو ادعى أنه لا يحبنا. وربما بعد أسابيع عندما نصبح جاهزين، سكرة ثانية في أبو آكوب. سكرة نستحضر فيها الفرح الذي يضفيه كنان على حياتنا. لا أشرب أنا، أخاف من حزني إذا شربت. ولكنه كنان، سأشرب لكي أسمح لحزني بالتعبير عن حجم الخسارة.

أريد أكثر من أي شيء آخر، أن تجمعنا كنيسة ما، نحن الشكاكين بإيماننا، الغاضبون من مسيح تخلى عنا، او حتى الساخرين من إيماننا او المتمسكين فيه. أريد أن أرتل مع كاهن ما “فليكن ذكرة مؤبداً” بلغتي الأم.

حتى الطعام سنتنافس عليه، يزن ربما سيقترح أن نتبرع بالطعام لجهة ما، ربما كنا لو كنا هناك لفعلنا ذلك. ولكن من هنا ، من وحدتنا المريعة، أريد عش بلبل وأن نقول لأهل كنان كم نحبه، أن نلّح عليهم أن يأكلوا الشوربة الساخنة إن كانوا لا يستطيعون أكل شيء آخر، “وبس كمان شفة عيران”.

أريد أن أصافح أيدي الأصدقاء، أن أحتضنهم حتى لو لم يريدوا أن يحتضنهم أحد. أن أوقف هذا النحيب لأنني أمام جمهور.
أشاهد مقاطع فيديو مصورة لجنازة كنان، يفجعني قلة الحاضرين مئات يحبونه وقلة حول تابوته
ينجح السفاح والمنفى بتقليصنا مرة أخرى
لا أعرف ماذا أفعل انا البعيدة عنهم جميعاً وعن حلب وعن كنان
أقرأ نص عزام المؤجل الذي كتبه لكنان، كنت خائفة من النهاية القريبة ولذا أجلت قراءة ذاك النص

أفتح ورقة بيضاء وأكتب هذا النص.
أقول لصديقات منذ مدة، أنني أعتبر الكتابة حالياً عن المواضيع المؤلمة طقساً بديلا ً لوضع وردة على قبور من أحب، قبور لا يزورها أحد.
لدي الكثير من السنويات سنوية والدي، سنوية والدتي ، سنوية مصطفى، سنوية اختطاف ابو مريم .. لا طقوس تعزية أخرى ممكنة. أكتب في تلك الأيام، لأزور قبورهم

وأكتب اليوم لأحتضن الأصدقاء ،
لأضع وردة على قبر كنان
ولأخبر كنان أننا نحبه وأن
” المحبة لا تسقط أبداً”

2 thoughts on “وردة بيضاء لكنان

Add yours

  1. “أريد ان أصافح أيدي الأصدقاء ، بلحظة تهجيري من حلب كنت ناطرة شوف حدا من رفقاتي ناطرني عل الحدود بس كرمال حس بالتعزية من خلال نظراته ، بدي أبكي معه وبدي اجهش
    بالبكي مع حده بيتشارك معي الألم بدون ما أحس أنه عم يعطف علي ، كان بدي حدا جنبي يعزيني مع أنه لما رجعت مكسورة من دفن أخي و والدي ، بوقتها كانت كل طقوس العزا مانها كفيلة بمواساتي وماكنت شايفتلها أي معنى وكأني بدي أصرخ بالحاضرين اتركونا لحالنا نبكي يلي فقدناه بصمت

    Like

Leave a comment

Up ↑