ذعر الكتابة


لم أكتب نصاً راضية عنه منذ سقوط حلب، أو ربما من قبل ذلك بمدّة، وليس لأنني انشغلت بجلد الذات باسم المراجعة، قمت بذلك قبلاً ولم يجدني نفعاً. وليس أيضاً لأنني لا أجد ما يستحق الوقوف عنده أو لأنه ليس لديّ ما أقوله. فهناك في يومنا السوري الكثير ما يستحق الوقوف عنده والكثير مما من واجبنا أن يقال وأن يكتب. 
لم أكتب نصاً منذ سقوط حلب لأنني خائفة. 
من يعرفني بشكل جيد، يقول أن لديّ بالعادة مبالغة في سوء تقدير المخاطر، لا أخاف إلا فيما ندر وليس من باب الشجاعة فقط بل أحياناً من باب الاستهتار والتهور.
ولكن كلما جئت لأكتب نصاً، أصاب بكل أعراض الخوف الجسدية والنفسية. لديّ عشرات الملفات التي فيها ثلاثة سطور عن موضوع ما لأتوقف بعدها مذعورة عن الكتابة. 
مم أخاف؟ 
كنت أعتقد أنني أخاف مقصلة الناس على الفايسبوك، تلك المقصلة العدمية التي ستحاكم كل شيء، شكوكي وهزيمتي وتجربتي وشهادة حياتي..
إنْ كتبت عن خساراتي، تسقط في مسطرة المقارنات المزاودة مع معاناة الآخرين. هناك آلاف عانوا أكثر ولم يكتبوا، ويصبح من حق الشهداء وحدهم الكتابة. 
إن كتبت عن فرحي، تسقط في مزاودة الإتجار بضرورة تزييف الحزن. إن كتبت عن الآخرين، أزاود في تجاربهم وإن كتبت عن تجربتي، متمحورة ذاتياً.
إن كتبت عن مشاعري، ألام أننا نحن النساء لا نكتب في شؤون غير عواطفنا وتجاربنا الذاتية. إن كتبت سياسة فإن تحليلي السياسي قاصر وغير متصل بالسياق ومنحاز وغير موضوعي وهكذا.. 
لكن ذلك كله ليس بجديد، ولو كان هو الدافع حقيقة أمام إحجامي عن الكتابة لكتبت بأسماء وهمية، لكتبت دون أن أنشر مثلاً. وبعد التفكير المعمق بالأسباب الحقيقية التي تخيفني، أعتقد أنني أخاف مني. 
أنا أخاف من ذاتي السابقة واللاحقة، كلما فكرت في الكتابة عن الثورة اليوم. 

أخاف من محاكمة ذاتي السابقة لنصوصي اليوم، على أنها أقل شجاعة، أقل جذرية وأكثر خوضاً في التفاصيل غير المجدية. أكتب اليوم وأنا أفاضل بين معاركي وأبحث عن نص يتحدث عن كل ما نحن فيه من حطام دون أن يكون صالحاً للاستخدام ضدنا من أي عدو، لا من اولئك الشامتين فينا إن ناقشنا هزيمتنا، ولا أولئك الذين يحتاجون حديثنا عن أخطائنا كي يشعروا براحة الضمير عن كونهم لسنوات لم يفعلوا شيئاً واكتفوا بتلو الوعظ علينا عن كيف يمكن أن تكون ثورتنا أكثر نزاهة، ليصبح موتنا على الشاشات أكثر أناقة. 
أخاف من أن أقارن ما أكتبه اليوم، ذاتي المهزومة، بين تلك المفعمة بالأمل وطموح الحرية والعدالة والكرامة. 
لم نكتب؟ لنجترّ احباطاتنا؟


أتوقف. 

أخاف من محاكمة ذاتي اللاحقة لنصوصي اليوم، تماماً كما نفعل كلنا عندما نعود إلى حماقات كتبناها عندما كنا أصغر، عندما كنا أصدق، عندما كنا أجمل. 
كيف لا أقع في فخ محاكمة الأمس بما أعتقد أنني أعرفه اليوم؟ كيف نكتب عن الغد نحن الذين ما يحصل في يومنا هو أسوأ من أسوأ ما كان ممكن أن نتوقعه ككوابيس. 
ما الذي أتوقعه أو أستطيع كتابته؟ في هذا الحدث دائم التغيير، الثابت على حاله في اقترابه من الموت؟ 
كيف أكتب نصاً لا أندم غداً أنني كتبته؟ أنا المتغيرة دائماً عمّا كنت فيه بالأمس القريب جداً. 

أخاف من ذاتي الحقيقية، عندما أكتب.. 
أتبنى، بشكل واع على الأقل، مقولة أن “اليأس خيانة” وأن التحدي الحقيقي هو إيجاد فرصة ومتسع لخلق الأمل فينا وفي الآخرين. 
ولكن كلما جلست لأكتب، تسيل ساحات من الكآبة بين كلماتي. كل ما أكتبه وكل ما أقوى على خطه، قاتم قاتم. 
موت، موت، حطام، انكسار وهزيمة، مفردات أكررها عبر آخر نصوص أكتبها، من أين أحضر نصوصاً أكثر إيجابية؟
وهل يعقل أن هذه هي حقيقتي؟ وإن كانت تلك حقيقتي فسأتجاهلها تماماً وأهرب نحو ادعاء “إننا محكومون بالأمل”، أولئك الذين تحدثوا عن مواجهة الواقع ربما كانوا يتحدثون عن واقع أقل قتامة من واقعنا. 
تكشف الكتابة زيف ادعاءاتي بالفرح والعودة إلى حياة أكثر طبيعية، وتنزع عني أقنعة جهدت كثيراً لإلصاقها بوجهي ولست جاهزة لذاك العري الذي تخلقه النصوص، فلا أكتب. لست جاهزة للانكشاف على خساراتي وأناي الجديدة.

أخاف من أسئلتي كلما جلست لأكتب.





حيث تتسابق هواجس مؤلمة ولا أجوبة سهلة لتلك الأسئلة. هل هزمنا تماماً؟ هل كل ذاك الدم هدراً؟ هل تبقّى لنا مكان في سوريا يتسع لحلمنا؟ هل تبقى أصلاً ما هو سوري؟ ما هو؟ لمَ نجونا؟ لماذا نحن تحديدا ً؟ إذا كانت الحياة التي أعطيت لنا مجدداً امتيازاً بهذه الأهمية؟ ماذا نفعل به؟ هل علينا أن نخلع هويتنا السورية لنندمج بذاك العالم الذي يحبسنا في تلك الهوية؟ 
ومن الصعب أن نكتب بين تلك الألغام كلها، ماذا لو أجبنا على إحداها وكان الجواب أقسى مما نتحمل؟ 

يقولون لنا، اكتبوا للتوثيق وللتاريخ وللجيل الذي لا يعرف قصتكم، كيف نكتب نحن الذين حاولنا التواصل مع البشرية بكل اللغات التي نعرفها، بكل الصور واللحظات والتوثيق الممكن، كيف نجد ما تبقى من طاقة لإعادة تدوين كثافة ما حدث فينا.. 
كيف نكتب للآخرين ونحن الذين نخاف أن نكتب حتى لأنفسنا..

Leave a comment

Up ↑